من تكرار مراقي السعود __ الحلقة الرابعة والثلاثون ـــ

 




العموم يكون في الأشخاص
وفي الأزمنة والبقاع والأحوال
على قول العلامة سيدي عبد الله:
"ويلزم العموم في الزمان
والحال للافراد والمكان
إطلاقه في تلك القرافي..."
المناسبة بينه مع ماسبق كون المبحث السابق يتناول دلالة العام وهي في معناه ومضمونه وهذا المبحث يتناول أيضا معنى العام وحدود دلالته التي ينتهي إليها، ولخفاء هذا الاختلاف فلا عجب أننا سنرى بعض النظار يسم مرتكبه بالوهم
لقد اختلف المالكية في هذه القاعدة إلى مذهبين.
المذهب الأول: مذهب جمهور المالكية كما في رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للشوشاوي : أن العام عام في الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة والمتعلقات
وهو اختيار عمر الفشتالي حيث يقول كما المعيار للونشريسي،:"إنا نختار إن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال ..."
المذهب الثاني: أن العموم إنما يكون في الأشخاص لا في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات فإن العام فيها مطلق .
وبه قال الإمام القرافي وفرع عليه قوله في تقسيمه لأنواع الاستثناء، وعده منها ما لولاه لجاز دخوله، وتمثيله له ب: "الاستثناء من المحال والازمان والأحوال..."شرح التنقيح م، س، مع حاشية التوضيح والتصحيح ج:1 ص: 236.وراجع للتوسع نفائس الأصول م، س ، ج:9، ص: 4117.
وقد علق الطاهر بن عاشور في التوضيح والتصحيح، على هذا الكلام بأنه إنما يجري "على مذهب المص ــ يعني القرافي ــ في أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة فكذلك لولا الاستثناء ماعلم دخول ما ذكر بل جاز دخوله أي إرادته من اللفظ وعدمه؛ لأن الاستثناء معيار العموم."
قلت ولعل مما يوضح هذه القاعدة ويقرب تصور الاختلاف فيها في المذهب المالكي وجود بعض الفروع التي يفرع الاختلاف فيها على هذه القاعده
يبدو أن المازري أيضا كان تكلم على هذه القاعدة في شرح التلقين وجلب للاختلاف فيها هذا التطبيق فقال في سياق كلامه عن الضمان :" قد قدمنا أن الحمالة بالمال لا تبرىء ذمة المتحمَّل عنه، بل يصير الدين متوجها في ذمتين: في ذمة الغريم وذمة الحميل. وذكرنا فيما سلف أن من الناس من ذهب إلى أن الحمالة بالمال تبرىء ذمة المتحمّل عنه وذلك كالحوالة: فإن حقيقة الحوالة أن يكون الدين في ذمة واحدة ثم ينتقل إلى ذمة المحال عليه وتبرأ الذمة الأولى وهي ذمة الغريم الذي عليه الدين. وذكرنا سبب الخلاف في هذه المسألة وأن جمهور العلماء على أن الحمالة لا تبرىء ذمة المتحمَّل عنه. ولكن اختلف هؤلاء في تمكين من له الدين من طلب الحميل بما تحمل به من ــ كتب محقق شرح التلقين الشيخ محمد المختار السلامي هنا مصوبا ـــ هكذا في النسختين ولعل الصواب مع ـــ تمكنه من أخذ دينه من ذمة غريمه الذي عامله بأصل الدين، في الأكثر على أن من له الدين مخيّر بين أن يطالب بدينه الغريم أو الحميل، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وبه قال مالك في أحد قوليه. وله قول آخر أنه لا يمكن من له الدين من طلب الحميل مع إمكان أخذ دينه من غريمه.
والروايتان عنه مشهورتان في المدونة وغيرها.
واتفق الجميع على أن من له الدين إذا حيل بينه وبين أخذ حقه من الغريم لفقر حدث بالغريم، أو تغيب، أو لدد، أو امتناع لا يقدر معه على الانتصاف
منه، فإن له أخذ الدين من الحميل.
وسبب الخلاف في تمكين من له الدين بطلب الحميل مع تمكنه من أخذه من الغريم قوله عليه السلام "والزعيم غارم" يعم سائر الأحوال: حالة كون الغريم حاضرًا موسرا يتُمكن طلبُه بالدين، وبين كونه ممتنعا من أدائه. وهذا كالعموم في المعنى، وفيه اختلاف بين الأصوليين. فاقتضى هذا العموم تمكين من له الدين من طلب الحميل على أيّ حال كان الغريم. وكأن من ذهب إلى رفع التخيير بين طلب الحميل والغريم إذا أمكن أخذ الدين من كل واحد منهما رأى أن قوله في هذا الحديث "والزعيم غارم" فيه إشارة إلى أنه إنما يغرم ما قد صار في حيز التلف لكون الغريم فقيرًا أو ممتنعا فيصير الحميل غارمًا لما هو في حكم التالف. وكأن هؤلاء رأوا أن لفظة الغرامة تشعر يكون ما يؤدى عوضا عن ما هو في حكم الفائت التالف، وإنما يقال غرم زيد قيمة ثوب استهلكه، ولا يقال إذا اشتراه وأدى ثمنه غرم زيد ثمنه هذا المألوف في الاستعمال.
وهذا يقتضي ألا يتوجه على الحميل. مطالبة إلا عند فوت أخذ الحق من الغريم."شرح التلقين ج:7 /ص:176 ــــ 175
ولعل هذا المثال لهذه القاعدة الذي لم أره عند من تكلموا على أصول الفقه عند المازري من خلال شرح التلقين وغيره ـــ إن سلم من أوائل تطبيقاتها عند المالكية حسب المعلومات المتوفره الآن، والعلم عند ربنا الوهاب المنان
..."
ومن تطبيقات هذه القاعدة ما ورد في المعيار للونشريسي من قول عمر الفشتالي في جواب سؤال ورد عليه مسألة رجل حبس عند موته جنة على مساجد بلده هل يدخل في الحبس كل مسجد في البلد أو إنما يدخل ما اشتهر من مساجد البلد ويعرفه الخاص والعام.: "ومن المعلوم أن مقتضى قوله حبس على مساجد بلدة كذا عموم تلك المساجد المضافة إلى تلك البلدة في كل زمان على ما هو الصحيح من كون العام في الأشخاص عام ـــــ هكذا في المطبوع، ولعل الصواب عاما. ــــ في الأزمنة والأحوال وأما على مذهب من رءاه مطلقا في جميع ذلك فيمكن أن يقال يقصر بعض الحبس على المساجد الموجودة حين التحبيس؛ لأن المطلق يصدر ــــ كذا في الأصل /ولعل الأولى يصدق ــــ بصورة منه، بل يمكن أن يقصر على المعلوم من المساجد للمحبس؛ لأن اللفظ، وإن عم المساجد، فهو مطلق في أحوالها فيقصر على حال المعلومية؛ لأنها المحققة الدخول في اللفظ دون غيرها، لكن الحق ما قدمناه لوجهين، أحدهما: إنا نختار إن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال..."
ومما يؤكد حضور هذه القاعدة والنزاع في مذكرة الأصول المالكية مقارنة حسن اليوسي وتشبيهه لها بقاعدة المشترك التي هي أيضا خلافية، وفي ذلك يقول في سياق تقسيمه لحالات المشترك : "وإذا قلنا في النفي لا عين عندي، فالعموم هنا ثابت، إذ هو حكم النكرة في سياق النفي ولكن يحتمل ثلاثة أمور:
الأول: أن يراد نفي كل فرد من افراد بعض ما يسمى عينا، كأفراد الباصرة، أو أفراد الجارية. الثاني: أن يراد نفي كل جنس مما يسمى عينا كجنس الباصرة وجنس الجارية
الثالث: أن يراد نفي كل جنس مع نفي كل فرد. ولا بد أيضا من قرينة في كل منها، غير أن الاحتمال الأول لانزاع في صحته، إذهو من المتواطئ الذي يعم في أفراده لاتفاق المعنى مع اللفظ. والنزاع إنما هو في الثاني، والقواعد العقلية تمنعه؛ لأن الكليات معتبرة بعموم المعنى لا بعموم التسمية، ومن ثم اشتد الإنكار على نفاة الأحوال كما تقرر ذلك في محله.
أما الثالث: فلا إشكال في صحته عندما يصح الثاني، ويستعمل إما معنى فلأن انتفاء الحقيقة يوجب انتفاء جميع أفرادها. وإما لفظا، فلأن الاسم الواقع على الجنس واقع على كل فرد، فبالوجه الذي ينتفي الجنس تنتفي الأفراد. ويشبه هذا ـــ والحديث شجون ــ مسألتين، إحداهما في هذا الفن، وهو ما يقال إن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال..." البدور اللوامع في شرح الجوامع في أصول الفقه للأمام الفقيه الأصولي النظار، أبي المواهب اليوسي تقديم فهرست وتحقيق: حميد حماني اليوسي، دكتور الدولة في العلوم الإنسانية جامعة الحسن الثاني عين الشق .1424ه-.2003م. سلسلة الأعمال الكاملة للإمام الحسن اليوسي في الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، مطبعة دار الفرقان للنشر الحديث، الدار البيضاء ، 4، ص: 52.
فمن العجيب مع كل هذه النقول استشكال شيخ شيوخنا العلامة الطاهر بن عاشور مذهب القرافي وقوله إنه لا يمكن تصوره، وأن الإطلاق هنا ليس جاريا على المصطلح الأصولي، بل هو بمعناه اللغوي إلى آخر كلام العلامة الطاهر الذي يوهم كلامه أن هذه القاعدة، والخلاف فيها خاص بالإمام القرافي؛ إذ هي من مخترعاته مستشهدا على ذلك بقول ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ""أولع بعض أهل العصر وما يقرب منه بأن قالوا: صيغة العموم إذا وردت على الذوات ـ مثلاـ، أو على الأفعال:كانت عامة فى ذلك، مطلقة فى الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات.ثم يقولون: المطلق يكفي فى العمل به صورة واحدة، فلا يكون حجة فيما عداه. وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى كثرة من ألفاظ الكتاب والسنة، وصار ذلك ديدنا لهم فى الجدال. وهذا عندنا باطل؛ بل الواجب: أن ما دل على العموم فى الذوات ـ مثلا ـ يكون دالا على ثبوت الحكم فى كل ذات تناولها اللفظ، ولا يخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه، فمن أخرج شيئا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم."
ومن كلام غير المالكية فيها هناك نقول وتحقيق للامام الحافظ شمس الدين بن عبدالدائم نقتبس منها هنا جملا نوردها هنا تمهيدا للكلام على هذا البحث الشائك لعلها تنير للقارئ السبيل ،إذ يرى البرماوي تعارض كلام ابن دقيق العيد المتقدم ذكره فيها في كتابيه الالمام والاحكام فليراجع ذلك في الفوائد السنيه في شرح الالفيه ج:3/ ص:1293 ــ 1294. يقرر البرماوي في سياق كلامه عن هذا المبحث طريقتان الاولى ينقل فيها عن ابن السمعاني والرازي أن العام عام في الأحوال والازمنة والبقاع والمتعلقات ويقول الحافظ عن الطريقة الثانيه التي يرى أهلها أن العام ليس عاما في الاربعه المتقدمة :"وإليها جنح كثير من المتأخرين كالآمدي والاصفهاني وغيرهم " راجع الفوائد السنيه ج:3/ 1294. ثم خلص البرماوي ناقلا تقي الدين بن السبكي وابنه والقاضي عبد الوهاب إلى ما رأه التحقيق من أن العموم في هذه الأربعة المتقدمة عرض "بطريق الاستلزام لا بالوضع وهو معنى "من لا زم الأشخاص أي من لازم تعميمه للأشخاص عمومه في الأحوال والازمنة والبقاع "الفوائد السنيه م،س،ج:3/ ص:1294.
وفي معنى كلام البرماوي هذا يقول ابن السبكي في سياق كلامه عن عموم آية (واقتلوا المشركين)(ظهر لي ...أن العموم إنما جاء في هذه الآية من صيغة إذا فإنها ظرف والامر معلق بها وهي شرط أيضا والمعلق على شرط يقتضي التكرار والظرف يشمل جميع الاوقات ويلزمها الاحوال...) الابهاج تحقيق الدكتور محمد شعبان محمد إسماعيل ط مكتبة الكليات الازهريه 1981 م. ج:٢/ ٨٥
ويبدو أن المازري أيضا كان تكلم على هذه القاعدة قبل القرافي والبرماوي وابن السبكي في شرح التلقين وجلب للاختلاف فيها هذا التطبيق في نصه المتقدم قريبا
انتهى وجل هذه الحلقة ملخص من كتابي المطبوع الاختلافات الأصولية النقليه وأثرها في الفروع عند المالكيه و مقالاتي المنشورة في موقعي الاخبار وانتالفه ومن :"تحقيقات من كتب وأخبار الامام المازري وخاصة شرح التلقين:."
مما لما اره فيما لدي من شروح المراقي وليس كثيرا
والله تعالى اعلم


الدكتور عبد الرحمن بن حمدي ابن ابن عمر






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صلات الباركيين بغيرهم من تاشمش / الدكتور عبد الرحمن حمدي ابن عمر

ارتباط اسمي الجد ابن عمر بن محمود والخال محمد الامين بن أحمد خرشي بتجديد رسم كنابين جليلين من كتب الشمائل والسير

مقابر الشمال